سورة الحجر - تفسير تفسير الخازن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحجر)


        


قوله سبحانه وتعالى: {الرَ تلك آيات الكتاب وقرآن مبين} تلك إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات والمراد بالكتاب وبالقرآن المبين: الكتاب الذي وعد به الله محمداً صلى الله عليه وسلم، وتنكير القرآن للتفخيم، والتعظيم والمعنى تلك آيات الكتاب الكامل في كونه كتاباً، وفي كونه قرآناً وأي قرآن كأنه قيل: الكتاب الجامع للكمال والغرابة في البيان وقيل: أراد بالكتاب التوراة والإنجيل، لأن عطف القرآن على الكتاب والمعطوف غير المعطوف عليه وهذا القول ليس بالقوي، لأنه لم يجر للتوراة والإنجيل ذكر حتى يشار إليهما. وقيل: المراد بالكتاب القرآن وإنما جمعهما بوصفين وإن كان الموصوف واحداً لما في ذلك من الفائدة وهي التفخيم والتعظيم، والمبين الذي يبين الحلال من الحرام، والحق من الباطل {ربما} قرئ بالتخفيف والتشديد وهما لغتان ورب للتقليل وكم للتكثير، وإنما زيدت ما مع رب ليليها الفعل تقول رب رجل جاءني وربما جاءني زيد وإن شئت جعلت ما بمنزلة شيء كأنك قلت رب شيء فتكون المعنى رب شيء {يود الذين كفروا} وقيل: ما في ربما بمعنى حين أي رب حين يود يعني يتمنى الذين كفروا لأن التمني هو: تشهي حصول ما يوده، واختلف المفسرون في الوقت الذي يتمنى الذي كفروا {لو كانو مسلمين} على قولين أحدهما: أن ذلك يكون عند معاينة العذاب وقت الموت فحيئنذ يعلم الكافر أنه كان على الضلال، فيتمنى لو كان مسلماً، وذلك حين لا ينفعه ذلك التمني. قال الضحاك: هو عند حالة المعاينة والقول الثاني: إن هذا التمني يكون في الآخرة، وذلك حين يعاينون أهوال يوم القيامة وشدائده وما يصيرون عليه من العذاب فحينئذ يتمنى الذين كفروا لو كانوا مسلمين. وقال الزجاج: أن الكافر كلما رأى حالاً من أحوال العذاب ورأى حالاً من أحوال المسلم ود لو كان مسلماً وقيل إذا رأى الكافر أن الله تعالى يرحم المسلمين، ويشفع بعضهم في بعض حين يقول: من كان من المسلمين فليدخل الجنة فحينئذ يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين والقول المشهور أن ذلك التمني حين يخرج الله المؤمنين من النار عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا اجتمع أهل النار في النار ومعهم من شاء الله من أهل القبلة قال الكفار لمن في النار من أهل القبلة: ألستم مسلمين؟ قالوا: فما أغنى عنكم إسلامكم وأنتم معنا في النار. قالوا: كانت لنا ذنوب فأخذنا بها فيغفرها الله لهم بفضل رحمته فيأمر الله بكل من كان من أهل القبلة في النار، فيخرجون منها فحينئذ يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين» ذكره البغوي بغير سند، وكذا ذكره ابن الجوزي وقال: وإليه ذهب ابن عباس في رواية عنه عن أنس بن مالك ومجاهد وعطاء وأبو العالية وإبراهيم يعني النخعي.
فإن قلت: رب إنما وضعت للتقليل، وتمني الذين كفروا لو كانوا مسلمين يكثر يوم القيامة فكيف قال: ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين. قلت: قال صاحب الكشاف هو وارد على مذهب العرب في قولهم لعلك ستندم على فعلك، وربما ندم الإنسان على فعله، ولا يشكون في تندمه ولا يقصدون تقليله، ولكنهم أرادوا لو كان الندم مشكوكاً فيه أو كان قليلاً لحق عليك أن لا تفعل هذا الفعل لأن العقلاء يتحرزون من التعرض للغمِّ المظنون كما يتحرزون من المتيقن ومن القليل منه كما يتحرزون من الكثير وقال غيره إن هذا القليل أبلغ في التهديد ومعناه يكفيك قليل الندم في كونه زاجراً لك عن هذا الفعل. فيكف بكثيره؟ وقيل: إن شغلهم بالعذاب لا يقرعهم للندامة إنما يخطر ذلك ببالهم. فإن قلت: رب لا تدخل إلا على الماضي فكيف قال: ربما يود وهو في المستقبل قلت لأن المترقب في أخبار الله تعالى بمنزلة الماضي المقطوع به في تحققه كأنه قال: ربما ود. قوله سبحانه وتعالى: {ذرهم يأكلوا ويتمتعوا} يعني دع يا محمد هؤلاء الكفار يأكلوا في دنياهم ويتمتعوا بلذاتها {ويلههم الأمل} يعني ويشغلهم طول الأمل عن الإيمان والأخذ بطاعة الله تعالى {فسوف يعلمون} يعني إذا وردوا القيامة، وذاقوا وبال ما صنعوا وهذا فيه تهديد ووعيد لمن أخذ بحظه من الدنيا، ولذاتها ولم يأخذ بحظه من طاعة الله عز وجل، وقال بعض أهل العلم: ذرهم تهديد وفسوف يعلمون تهديد آخر فمتى يهنأ العيش بين تهديدين وهذه الآية منسوخة بآية القتال، وفي الآية دليل على أن إيثار التلذذ، والتنعم في الدنيا يؤدي إلى طول الأمل وليس ذلك من أخلاق المؤمنين. قال علي بن أبي طالب: إنما أخشى عليكم اثنتين طول الأمل واتباع الهوى فإن طول الأمل، ينسي الآخرة، واتباع الهوى يصد عن الحق.


{وما أهلكنا من قرية} يعني من أهل قرية وأراد إهلاك الاستئصال {إلا ولها كتاب معلوم} أي أجل مضروب، ووقت معين لا يتقدم العذاب عليه، ولا يتأخر عنه ولا يأتيهم إلا في الوقت الذي حدد لهم في اللوح المحفوظ {ما تسبق من أمة أجلها} من زائدة في قوله: {من أمة} كقولك ما جاءني من أحد. وقيل: هي على أصلها لأنها تفيد التبعيض إلى هذا الحكم فيكون ذلك في إفادة عموم النفي آكد، ومعنى الآية أن الأجل المضروب لهم وهو وقت الموت، أو نزول العذاب لا يتقدم ولا يتأخر وهو قوله سبحانه وتعالى: {وما يستأخرون} وإنما أدخل الهاء في أجلها لإرادة الأمة، وإخراجها من قوله وما يستأخرون لإرادته الرجال. قوله عز وجل: {وقالوا} يعني مشركي مكة {يا أيها الذي نزل عليه الذكر} يعني القرآن وأرادوا به محمداً صلى الله عليه وسلم {إنك لمجنون} إنما نسبوه إلى الجنون لأنه صلى الله عليه وسلم، كان يظهر عند نزول الوحي عليه ما يشبه الغشي فظنوا أن ذلك جنون فلهذا السبب نسبوه إلى الجنون، وقيل: إن الرجل إذا سمع كلاماً مستغرباً من غيره فربما نسبه إلى الجنون، ولما كانوا يستبعدون كونه رسولاً من عند الله، وأتى بهذا القرآن العظيم أنكروه ونسبوه إلى الجنون، وإنما قالوا: يا أيها الذي نزل عليه الذكر على طريق الاستهزاء وقيل: معناه يا أيها الذي نزل عليه الذكر في زعمه، واعتقاده واعتقاد أصحابه وأتباعه إنك لمجنون في ادعائك الرسالة {لو ما} قال الزجاج والفراء: لو ما ولولا لغتان ومعناهما هلا يعني هلا {تأتينا بالملائكة} يعني يشهدون لك بأنك رسول من عند الله حقاً {إن كنت من الصادقين} يعني في قولك وادعائك الرسالة {ما ننزل الملائكة إلا بالحق} يعني بالعذاب أو وقت الموت، وهو قوله تعالى: {وما كانوا إذاً منظرين} يعني لو نزلت الملائكة إليهم لم يمهلوا ولم يؤخروا ساعة واحدة وذلك أن كفار مكة كانوا يطلبون من رسول الله صلى الله عليه وسلم إنزال الملائكة عياناً فأجابهم الله عز وجل بهذا، والمعنى لو نزلوا عياناً لزال عن الكفار الإمهال وعذبوا في الحال إن لم يؤمنوا ويصدقوا {إنّا حن نزلنا الذكر} يعني القرآن أنزلناه عليك يا محمد، وإنما قال سبحانه وتعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر} جواباً لقولهم: {يا أيها الذين نزل عليه الذكر} فأخبر الله عز وجل هو الذي نزل الذكر على محمد صلى الله عليه وسلم {وإنا له لحافظون} الضمير في له يرجع إلى الذكر يعني، وإنا للذكر الذي أنزلناه على محمد لحافظون يعني من الزيادة فيه، والنقص منه والتغيير والتبديل والتحريف، فالقرآن العظيم محفوط من هذه الأشياء كلها لايقدر أحد من جميع الخلق من الجن والإنس أن يزيد فيه، أو ينقص منه حرفاً واحداً أو كلمة واحدة، وهذا مختص بالقرآن العظيم بخلاف سائر الكتب المنزلة فإنه قد دخل على بعضها التحريف، والتبديل والزيادة والنقصان ولما تولى الله عز وجل حفظ هذا الكتاب بقي مصوناً على الأبد محروساً من الزيادة والنقصان، وقال ابن السائب ومقاتل: الكناية في له راجعة إلى محمد صلى الله عليه وسلم يعني وإنا لمحمد لحافظون ممن أراده بسوء فهو كقوله تعالى: {والله يعصمك من الناس} ووجه هذا القول أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر الإنزال، والمنزل دل ذلك على المنزل عليه وهو محمد صلى الله عليه وسلم فحسن صرف الكناية إليه لكونه أمراً معلوماً إلا أن القول الأول أصح، وأشهر وهو قول الأكثرين لأنه أشبه بظاهر التنزيل ورد الكناية إلى أقرب مذكور أولى، وهو الذكر وإذا قلنا: إن الكناية عائدة إلى القرآن، وهو الأصح فاختلفوا في كيفية حفظ الله عز وجل للقرآن فقال بعضهم: حفظه بأن جعله معجزاً باقياً مبايناً لكلام البشر فعجز الخلق عن الزيادة فيه، والنقصان منه لأنهم لو أرادوا الزيادة فيه والنقصان منه لتغيير نظمه، وظهر ذلك لكل عالم عاقل وعلموا ضرورة أن ذلك ليس بقرآن، وقال آخرون: إن الله حفظه وصانه من المعارضة فلم يقدر أحد من الخلق أن يعارضه. وقال آخرون: بل أعجز الله الخلق عن إبطاله وإفساده بوجه من الوجوه فقيض الله له العلماء الراسخين يحفظونه، ويذبون عنه إلى آخر الدهر لأن دواعي جماعة من الملاحدة واليهود متوفرة على إبطاله وإفساده فلم يقدروا على ذلك بحمد الله تعالى قوله سبحانه وتعالى: {ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين} لما تجرأ كفار مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاطبوه بالسفاهة وهو قولهم: إنك لمجنون وأساؤوا الأدب عليه أخبر الله سبحانه وتعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن عادة الكفار في قديم الزمان مع أنبيائهم، كذلك فلك يا محمد أسوة في الصبر على أذى قومك بجميع الأنبياء ففيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وفي الآية محذوف تقديره ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك يا محمد، فحذف ذكر الرسل لدلالة الإرسال عليه، وقوله تعالى في شيع الأولين: الشيعة هم القوم المجتمعة المتفقة كلمتهم وقال الفراء: الشيعة هم الأتباع وشيعة الرجل أتباعه. وقيل: الشيعة من يتقوى بهم الإنسان. وقوله من شيع الأولين من باب إضافة الصفة إلى الموصوف {وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون كذلك نسلكه في قلوب المجرمين} السلوك النفاذ في الطريق، والدخول فيه والسلك إدخال الشيء في الشيء كإدخال الخيط في المخيط، ومعنى الآية كما سلكنا الكفر والتكذيب والاستهزاء في قلوب شيع الأولين، كذلك نسلكه أي ندخله في قلوب المجرمين يعني مشركي مكة، وفيه رد على القدرية والمعتزلة وهي أبين آية في ثبوت القدر لمن أذعن للحق، ولم يعاند قال الواحدي قال أصحابنا: أضاف الله سبحانه وتعالى إلى نفسه إدخال الكفر في قلوب الكفار، وحسن ذلك منه فمن آمن بالقرآن فليستحسنه، وقال الإمام فخرالدين الرازي: احتجّ أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى يخلق الباطل، والضلال في قلوب الكفار فقالوا قوله: {كذلك نسلكه} أي كذلك نسلك الباطل، والضلال في قلوب المجرمين وقالت المعتزلة لم يجر للضلال، والكفر ذكر فيما قيل هذا اللفظ فلا يمكن أن يكون الضمير عائد إليه، وأجيب عنه بأنه سبحانه وتعالى قال: ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون فالضمير في قوله كذلك نسلكه عائد إليه، والاستهزاء بالأنبياء كفر وضلال فثبت صحة قولنا: إن المراد من قوله كذلك نسلكه في قلوب المجرمين، أنه الكفر والضلال.
قوله تعالى: {لايؤمنون به} بمحمد صلى الله عليه وسلم وقيل بالقرآن {وقد خلت سنة الأولين} فيه وعيد وتهديد لكفار مكة، يخوفهم أن ينزل بهم مثل ما نزل بالأمم الماضية المكذبة للرسل، والمعنى وقد مضت سنة الله بإهلاك من كذب الرسل من الأمم الماضية فاحذروا يا أهل مكة أن يصيبكم مثل ما أصابهم من العذاب {ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون} يعني ولو فتحنا على هؤلاء الذين قالوا: لو ما تأتينا بالملائكة باباً من السماء فظلوا. يقال: ظل فلان يفعل كذا إذا فعله بالنهار، كما يقل بات يفعل كذا إذا فعله بالليل فيه يعني في ذلك الباب يعرجون يعني يصعدون، والمعارج: المصاعد، وفي المشار إليه بقوله: {فظلوا فيه يعرجون} قولان:
أحدهما أنهم الملائكة وهو قول ابن عباس والضحاك، والمعنى: لو كشف عن أبصار هؤلاء الكفار قرأوا باباً من السماء مفتوحاً والملائكة تصعد فيه لما آمنوا. والقول الثاني: أنهم المشركون وهو قول الحسن وقتادة والمعنى: فظل المشركون يصعدون في ذلك الباب فينظرون في ملكوت السموات، وما فيها من الملائكة لما آمنوا لعنادهم وكفرهم، ولقالوا إنا سحرنا وهو قوله تعالى: {لقالوا إنما سكرت أبصارنا} قال ابن عباس: سدت أبصارنا مأخوذ من سكر النهر إذا حبس، ومنع من الجري وقيل: هو من سكر الشراب والمعنى أن أبصارهم حارت، ووقع بها من فساد النظر مثل ما يقع للرجل السكران من تغيير العقل، وفساد النظر وقيل سكرت يعني غشيت أبصارنا وسكنت عن النظر، وأصله من السكور يقال سكرت عينه إذا تحيرت، وسكنت عن النظر {بل نحن قوم مسحورون} يعني سحرنا محمد، وعمل فينا سحره. وحاصل الآية أن الكفار لما طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن ينزل عليهم الملائكة فيروهم عياناً ويشهدوا بصدقه أخبر الله سبحانه وتعالى أنه لو حصل لهم هذا وشاهدوه عياناً لما آمنوا ولقالوا سحرنا لما سبق لهم في الأزل من الشقاوة.
قوله سبحانه وتعالى: {ولقد جعلنا من السماء بروجاً} يعني البروج التي تنزلها الشمس في مسيرها واحدها برج، وهي بروج الفلك الاثنا عشر برجاً هي: الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلوا والحوت. وهذه البروج مقسومة على ثمانية وعشرين منزلاً لكل برج منزلان وثلث منزل، وقد تقدم ذكر منازل القمر في تفسير سورة يونس، وهذه البروج مقسومة على ثلثمائة وستين درجة لكل برج منها ثلاثون درجة تقطعها الشمس في كل سنة مرة، وبها تتم دورة الفلك ويقطعها القمر في ثمانية وعشرين يوماً، قال ابن عباس في هذه الآية يريد بروج الشمس والقمر، يعني منازلهما وقال ابن عطية: هي قصور في السماء عليها الحرس. وقال الحسن ومجاهد وقتادة: هي النجوم العظام. قال أبو إسحاق يريدون نجوم هذه البروج، وهي نجوم على ما صورت به. وسميت وأصل هذا كله من الظهور {وزيناها} يعني السماء بالشمس والقمر والنجوم {للناظرين} يعني المعتبرين المستدلين بها على وحيد خالقها، وصانعها وهو الله الذي أوجد كل شيء وخلقه وصوره {وحفظناها} يعني السماء {من كل شيطان رجيم} أي مرجوم فعيل بمعنى مفعول، وقيل: ملعون مطرود من رحمة الله. قال ابن عباس: كانت الشياطين لا يحجبون عن السموات وكانوا يدخلونها، ويأتون بأخبارها إلى الكهنة فيلقونها إليهم، فلما ولد عيسى عليه السلام منعوا من ثلاث سموات فلما ولد محمد صلى الله عليه وسلم، منعوا من السموات أجمع فما منهم من أحد يريد أن يسترق السمع إلا رمي بشهاب فلما منعوا من تلك المقاعد ذكروا لإبليس فقال: لقد حدث في الأرض حدث فبعثهم ينظرون فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن فقالوا: هذا والله حدث.


{إلا من استرق السمع} هذا استثناء منقطع، معناه لكن من استرق السمع {فأتبعه} أي لحقه {شهاب مبين} والشهاب شعلة من نار ساطع سمي الكوكب شهاباً لأجل ما فيه من البريق شبه بشهاب النار، قال ابن عباس في قوله إلا من استرق السمع: يريد الخطفة اليسيرة، وذلك أن الشياطين يركب بعضهم بعضاً إلى السماء يسترقون السمع من الملائكة فيرمون بالكواكب، فلا تخطئ أبداً فمنهم من تقتله، ومنهم من تحرق وجهه أو جنبه أو يده، أو حيث يشاء الله ومنهم من تخبله فيصير غولاً يضل الناس في البوادي.
(خ) عن أبي هريرة أن النبي صل الله عليه وسلم قال: «إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم؟ قالوا: الذي قال الحق وهو العلي الكبير فيسمعها مسترقو السمع، ومسترقو السمع هكذا بعضهم فوق بعض، ووصف سفيان بكفه فحذفها، وبدد أصابعه فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن فربما أدركه الشهاب، قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة، فيقال له: أليس قال لنا كذا وكذا فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء».
اختلف العلماء هل كانت الشياطين ترمى بالنجوم قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أم لا على قولين: أحدهما أنها لم تكن ترمى بالنجوم، قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما ظهر ذلك في بدء أمره فكان ذلك أساساً لنبوته صلى الله عليه وسلم ويدل على صحة هذا القول ما روي عن ابن عباس قال: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين، وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب. أخرجاه في الصحيحين. فظاهر هذا الحديث يدل على أن هذا الرمي بالشهب لم يكن قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم فلما بعث حدث هذا الرمي. ويعضده ما روي أن يعقوب بن المغيرة بن الأخنس بن شريق قال: أو من فزع للرمي بالنجوم هذا الحي من ثقيف، وأنهم جاؤوا إلى رجل منهم يقال له: عمرو بن أمية أحد بني علاج وكان أهدى العرب فقالوا له: ألم تر ما حدث في السماء من القذف بالنجوم؟ فقال: بلى. ولكن انظروا فإن كانت معالم النجوم التي يهتدى بها في البر والبحر ويعرف بها الأنواء من الصيف والشتاء لما يصلح الناس من معايشهم هي التي يرمى بها فهو والله طي الدنيا وهلاك الخلق الذين فيها وإن كانت نجوماً غيرها وهي ثابتة على حالها فهذا الأمر أراده الله من الخلق قال الزجاج: ويدل على أنها كانت بعد مولد النبي صلى الله عليه وسلم أن شعراء العرب الذين ذكروا البرق، والأشياء المسرعة لم يوجد في شعرهم ذكر الكواكب المنقضة فما حدثت بعد مولده صلى الله عليه وسلم، استعملت الشعراء ذكرها قال ذو الرمة:
كأنه كوكب في أثر عفرية *** مسوم في سواد الليل منقضب
والقول الثاني: إن ذلك كان موجوداً قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ولكن لما بعث شدد وغلظ عليهم. قال معمر: قلت للزهري أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية؟ قال: نعم. قلت: أفرأيت قوله وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فقال: غلظت وشدد أمرها حين بعث محمد صلى الله عليه وسلم ويدل على صحة هذا القول ما روي عن ابن عباس قال أخبرني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار أنهم بينما هم جلوس ليلة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ رمى بنجم واستنار فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما كنتم تقولون في الجاهلية إذا رمي بمثل هذا، قالوا كنا نقول ولد الليلة رجل عظيم أو مات رجل عظيم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإنها لا يرمى بها لموت أحد، ولا لحياته ولكن ربنا تبارك اسمه إذا قضى أمراً سبح حملة العرش ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم حتى يبلغ التسبيح إلى أهل هذه السماء، ثم قال: الذين يلون حملة العرش لحملة العرش، ماذا قال ربكم فيخبرونهم بما قال، فيستخبر بعض أهل السماء بعضاً حتى يبلغ الخبر هذه السماء الدنيا، فتخطف الجن السمع فيقذفونه إلى أوليائهم، ويرمون فما جاؤوا به على وجهه فهو حق ولكنهم يقذفون فيه ويزيدون» أخرجه مسلم وقال ابن قتيبة: أن الرجم كان قبل مبعثه، ولكن لم يكن في شدة الحراسة مثل بعد مبعثه، قال وعلى هذا وجدنا الشعر القديم قال بشر بن أبي حازم وهو جاهلي:
فالعير يرهقها الغبار وجحشها *** ينقض خلفهما انقضاض الكوكب
وقال أوس بن حجر وهو جاهلي:
فانقض كالدر يتبعه *** نقع يثور تخاله طنبا
والجمع بين هذين القولين: أن الرمي بالنجوم كان موجوداً قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بعث شدد ذلك وزيد في حفظ السماء وحراستها صوناً لأخبار الغيوب والله أعلم. قوله سبحانه وتعالى: {والأرض مددناها} يعني بسطناها على وجه الماء كما يقال: إنها دحيت من تحت الكعبة ثم بسطت هذا قول أهل التفسير، وزعم أرباب الهيئة أنها كرة عظيمة بعضها في الماء، وبعضها خارج عن الماء، وهو الجزء المغمور منها واعتذروا عن قوله تعالى: {والأرض مددناها} بأن الكرة إذا كانت عظيمة كان كل جزء منها، كالسطح العظيم فثبت بهذا الأمر أن الأرض ممدودة مبسوطة وأنها كرة، ورد هذا أصحاب التفسير بأن الله أخبر في كتابه بأنها ممدودة، وأنها مبسوطة ولو كانت كرة لأخبر بذلك والله أعلم بمراده، وكيف مد الأرض {وألقينا فيها رواسي} يعني جبالاً ثوابت وذلك أن الله سبحانه وتعالى لما خلق الأرض على الماء مادت ورجفت فأثبتها بالجبال {وأنبتنا فيها} أي في الأرض، لأن أنواع النبات المنتفع به تكون في الأرض، وقيل: الضمير يرجع إلى الجبال لأنها أقرب مذكور لقوله تعالى: {من كل شيء موزون} وإنما يوزن ما تولد في الجبال من المعادن، وقال ابن عباس وسعيد بن جبير: موزون أي معلوم، وقال مجاهد وعكرمة أي مقدور فعلى هذا يكون المعنى معلوم القدر عند الله تعالى لأن الله سبحانه وتعالى يعلم القدر الذي يحتاج إليه الناس في معايشهم وأرزاقهم فيكون إطلاق الوزن عليه مجازاً، لأن الناس لا يعرفون مقادير الأشياء إلا بالوزن، وقال الحسن وعكرمة وابن زيد: أنه عنى به الشيء الموزون كالذهب والفضة والرصاص والحديد والكحل ونحو ذلك مما يستخرج من المعادن، لأن هذه الأشياء كلها توزن وقيل: معنى موزون متناسب في الحسن والهيئة والشكل، تقول العرب فلان موزون الحركات إذا كانت حركاته متناسبة حسنة، وكلام موزون إذا كانت متناسباً حسناً بعيداً من الخطأ والسخف وقيل إن جميع ما ينبت في الأرض والجبال نوعان: أحدهما ما يستخرج من المعادن وجميع ذلك موزون.
والثاني النبات وبعضه موزون أيضاً: وبعضه مكيل وهو يرجع إلى الوزن لأن الصاع والمدّ مقدران بالوزن {وجعلنا لكم فيها معايش} جمع معيشة. وهو ما يعيش به الإنسان مدة حياته في الدنيا من المطاعم والمشارب والملابس ونحو ذلك {ومن لستم له برازقين} يعني الدواب والوحش والطير أنتم منتفعون بها، ولستم لها برازقين لأن رزق جميع الخلق على الله ومنه قوله تعالى: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} وتكون في قوله تعالى: {ومن لستم} بمعنى ما لأن من لمن يعقل وما لمن لا يعقل، وقيل: يجوز إطلاق لفظة من على من لا يعقل كقوله تعالى: {فمنهم من يمشي على بطنه} وقيل أراد بهم العبيد والخدم فتكون من على أصلها، ويدخل معهم ما لا يعقل من الدواب والوحش {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه} الخزائن جمع خزانة هي أسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء للحفظ يقال: خزن الشيء إذا أحرزه. فقيل أراد مفاتيح الخزائن وقيل: أراد بالخزائن المطر لأنه سبب الأرزاق والمعايش لبني آدم والدواب والوحش والطير ومعنى عندنا أنه في حكمه وتصرفه وأمره وتدبيره قوله تعالى: {وما ننزله إلا بقدر معلوم} يعني بقدر الكفاية. وقيل: إن لكل أرض حداً ومقدار من المطر. يقال: لا تنزل من السماء قطرة مطر إلا ومعها ملك يسوقها إلى حيث يشاء الله تعالى.
وقيل: إن المطر ينزل من السماء كل عام بقدر واحد لا يزيد ولا ينقص ولكن الله يمطر قوماً، ويحرم آخرين وقيل: إذا أراد الله بقوم خيراً أنزل عليهم المطر والرحمة وإذا أراد بقوم شراً صرف المطر عنهم إلى حيث لا ينتفع به، كالبراري والقفار والرمال والبحار ونحو ذلك. وحكى جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن جده أنه قال في العرش تمثال جميع ما خلق الله في البر والبحر. وهو تأويل قوله وإن من شيء إلا عندنا خزائنه {وأرسلنا الرياح لواقح} قال ابن عباس يعني للشجر، وهو قول الحسن وقتادة وأصل هذا من قولهم: لقحت الناقة وألقحها الفحل إذا ألقى إليها الماء، فحملته فكذلك الرياح كالفحل للسحاب وقال ابن مسعود في تفسير هذه الآية يرسل الله الرياح لتلقح السحاب فتحمل الماء فتمجه في السحاب ثم تمر به فتدر كما تدر اللقحة، وقال عبيد بن عمير: يرسل الله الريح المبشرة فتقم الأرض قماً، ثم يرسل المثيرة فتثير السحاب، ثم يرسل المؤلفة فتؤلف السحاب بعضه إلى بعض فتجعله ركاماً، ثم يرسل اللواقح فتلقح الشجر والأظهر في هذه الآية إلقاحها السحاب لقوله بعده فأنزلنا من السماء ماء قال أبو بكر بن عياش: لا تقطر قطرة من السماء إلا بعد أن تعمل الرياح الأربع فيها فالصبا تهيج السحاب، والشمال تجمعه والجنوب تدره والدبور تفرقه. وقال أبو عبيد: لواقح هنا بمعنى ملاقح جمع ملقحة حذفت الميم وردت إلى الأصل. وقال الزجاج: يجوز أن يقال لها لواقح وإن ألقحت غيرها، لأن معناها النسبة كما يقال: درهم وازن أي ذو وزن واعترض الواحدي على هذا. فقال هذا ليس بمغن لأنه كان يجب أن يصح اللاقح بمعنى ذات لقح حتى يوافق قول المفسرين، وأجاب الرازي عنه بأن قال: هذا ليس بشيء. لأن اللاقح هو المنسوب إلى اللقحة، ومن أفاد غير اللقحة فله نسبة إلى اللقحة وقال صاحب المفردات لواقح أي ذات لقاح وقيل إن الريح في نفسها لاقح لأنها حاملة للسحاب والدليل عليه قوله تعالى: {حتى إذا أقلت سحاباً} ثقالاً، أي حملت فعلى هذا تكون الريح لاقحة بمعنى حاملة تحمل السحاب. وقال الزجاج: ويجوز أن يقال للريح لقحت إذا أتت بالخير كما قيل لها عقيم إذا لم تأت بخير وورد في بعض الأخبار أن الملقح الرياح الجنوب، وفي بعض الآثار ما هبت رياح الجنوب إلا واتبعت عيناً غدقة.
(ق) عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا عصفت الريح قال: «اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها، وشر ما فيها ما أرسلت به» وروى البغوي بسنده إلى الشافعي إلى ابن عباس قال: ما هبت ريح قط إلا جثا النبي صلى الله عليه وسلم على ركبتيه، وقال: «اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عذاباً اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً» قال ابن عباس في كتاب الله عز وجل: {إنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً} {فأرسلنا عليه الريح العقيم} وقال: {وأرسلنا الرياح لواقح} وقال {يرسل الرياح مبشرات} وقوله سبحانه وتعالى: {فأنزلنا من السماء ماء} يعني المطر {فأسقيناكموه} يعني جعلنا لكم المطر سقياً يقال أسقى فلان فلاناً إذا جعل له سقياً، وسقاه إذا أعطاه ما يشرب، وتقول العرب: سقيت الرجل ماء، ولبناً إذا كان لسقيه فإذا جعلوا له ماء لشرب أرضه أو ماشيته يقال: أسقيناه {وما أنتم له} يعني للمطر {بخازنين} يعني: إن المطر في خزائننا لا في خزائنكم. وقيل: وما أنتم له بمانعين.

1 | 2 | 3 | 4